الإستغناء والتخلي في التوجيه

أيّها الموّجّه الفاضل/

بعد أن انتهى حديثي الجانبي معك في الشاشة الافتراضية، تكشفت لي قيمي العليا، والتي تحكم قرارات حياتي الخاصة والمهنية. لم يحدث ذلك وأنا اتحدث معك، حيث كنت أحاول التنفس بانتظام بسبب أني كنت ألهث ورائك في محاولة اللحاق بك. وبعد أن انتهى الحوار، وفي ساعات مسائي الحافلة وأنا أتأمل فيما دار بيننا، تكشّفت في تلك التأملات، بجانب قيمي الخاصة، التحدّيات التي تمرّ بها في رحلتك التنمويّة لذاتك والتي يمر بها الكثير ممن يحملون حب الخير والنوايا الطيبة كقيم عليا. وربما أكون مررت بنفس التحدّي أو أمرّ به في مستوى آخر من علاقاتي الخاصة أو العامّة ۞ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ  (53)يوسف. ولكن الشّاهد هو ما يصنعه التفاعل بين اثنين في مساحة آمنة بدون حتى أن ندخل في أدوار التوجيه وإنما في أريحية كاملة انطلقنا فيها لنعبّر عن ذواتنا في موضوع مهم بالنسبة لي وضعته بين يديك لثقتي البالغة فيك.

تكشّف لي وأنا أحكي لك بعد سؤالك الاستغراقي حول أسباب قرارات معينة في حياتي الخاصة والمهنية، أنّي انطلق من أعماق وأبعاد يصعب سبرها في حوار بسيط كهذا،  وأنّ الحديث عن التحدي نتج فقط عن احتياجك أنت لمعرفة المزيد وربما لطبيعتك في رغبتك في التغلب على المشكلات والتحديات ولا افترض فهذا أمر يحتاج لتأكيد منك، ولكن المهم أن الحديث معك حول حياتي لم يكن لاحتياجي حتما وإليك السبب.

رحلتي الخاصة لا يمكن اختصارها لك في دقائق، أو ساعات، أو أيام، أو أسابيع، أو حتى سنوات. رحلتي لا يمكن اختزالها لأنّ اختزالها يعني إنقاص حقّها والحكم عليها قبل نضجها في ذهن السامع وهذا يجلّي مبدأ التخلي أو كما يقال في التّخلّي التجلّي. والتخلي بالنسبة ليس تخلي مادّي، وإنما معنوي. التخلّي يقودني للصمت وترك الخوض والجدل ومحاولة الاقناع أو حلّ مشكلة أو تحدّي يواجِهُهُ شخص آخر. ولعلّ هذا يقودني لدعوتك للتخلّي كموجة، عن وجهة نظرك أو موقفك أو مشاعرك تجاه ما أمرّ به. فلم أشاركك فيما أمرّ به لحاجتي لنصحك أو منظورك أو بعد جديد غاب عني، ولكن مشاركتي لك هي احترام وتقدير لشخصك وثقة فيك كإنسان غالي وعزيز علي.

وأمّا القيمة الأخرى التي تجلّت لي وأنا أتأمل حول نفسي وحياتي، فهي قيمة الاستغناء أو الإياس مما في أيدي الناس:

جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ، علِّمْني وأوجِزْ، قال: إذا قُمْتَ في صلاتِكَ، فصَلِّ صلاةَ مُودِّعٍ، ولا تَكَلَّمْ بكلامٍ تعتذِرُ منه، وأجمِعِ اليَأْسَ عمَّا في أيدي النَّاسِ.[1]

حيث قادنا محور الحديث إلى اللجوء لحل أنت اقترحته لمعضلتي. ولكن ما أن أغلقت معك الاتصال إلا وعدت لمبدئي في الاستغناء وتخليت مرة أخرى ولله الحمد وانتهت المناورة بيني وبينك. أقول مناورة لأني شعرت بالإرغام والالحاح والإصرار في كل طرح طرحته معي. وفي تلك الحالة شعرت بالاختناق والرغبة في التنفس والوصول للسطح بأسرع طريق بعد انتهاء الاكسجين من أنبوب الغوص في الأعماق والذي كان آخر أنبوب لي في يومي الطويل، ولم يبق لي في النفس الأخير الا الاستسلام معك والصعود للسطح بما يسمى (صعود الطوارئ). ولم أدرك كلّ ذلك وأنا معك كما ذكرت، ولكن أدركته في ساعات التأمل الماضية والآن وأنا أكتب لك خواطري.

يبقى الآن أن أقف موقف المدرّب التوجيهي وأتحمّل مسؤولية تنمية الآخرين في المهنة لأن هذا الموقف معك أثار عمق مهم في خدمة التوجيه الاحترافي. أدركت أنّ مشوار التخلّي يحتاج لوعي من الموجّه في حال الاستماع العميق وطرح التساؤلات التي تستنهض وعي المتحدث المستفيد. وبالرغم من أنّ موقفي معك لم يكن توجيهي بشكل رسمي، إلا أنّي أدرك أننا لا يمكن أن نكون بأدوار سلوكية متعددة في التوجيه وخارج التوجيه. وكما أنّ القائد أوّلا يقود ذاته وعلاقاته الخاصة قبل أن يقود في الساحة العامة والمنظومة المتكاملة، فالموجّه يظهر بسلوكه التوجيهي في كل العلاقات متأمّلا، متخلّيا، واعيا بما يدور في داخله. وأدرك أيضا أنّ ما دار بيننا قد لا يعبّر عنك حقيقة فربما أنت ذاتك منهك من رحلة سابقة لحديثي معك انتهى فيها أنبوب الاكسوجين لديك. والآن في لحظة التأمل أرغب أن نقف لنقرأ المواقف التي تتحدّى مقدراتنا وندرك أنّ هناك مساحة للنمو وهي نفس المساحة التي عشتها بعد أن انتهت المكالمة بيننا، حيث أنه كان أمامي خيارين:

الأول أن أترك الموضوع تماما وأستنتج عنك افتراضات تستدعي التخلي عنك، كعلاقة مهمة في حياتي المهنية والخاصة (وأنا لا أفرّق كثيرا بين الاثنين كما ذكرت)، ويكون ذلك نقضا للعهد والتعاقد بيننا في ظل ( المؤمن مرآة أخيه) قبل أي تعاقد آخر مهني أو احترافي او اجتماعي.

أو أن أكون مرآتك الصادقة في رحلتك التنموية معي وأن أكون كما أنا حقيقة وبلا تمثيل أو أقنعة كما يفعل الكثير، وأن موقفي هذا هو التعلّم الحاصل والنمو المستدام فيما سيأتي، ليس فقط لك وإنما أيضا لي، وما هذا المقطع التأملي إلا جزء من نموي الحاصل من تفاعلنا السابق.

والآن بعد أن ألقيت ببابك صادقة مقالي، فهل ستحاول معي مرة أخرى بالنصح والإرشاد في موضوعي؟ هل ستستمر في اللهث بين الحلول واستمر أنا في محاولة اللحاق بك؟ أم ستتخلّي؟ والتخلي يصنع الصمت.

والآن أيها القارئ أيّاً كنت في دورك الاجتماعي أو علاقاتك المهنية أو الخاصة، ماذا يقع في داخلك من خواطر؟ ماهي مسؤوليتك؟ ماذا تحتاج أن تتخلى عنه؟ وكيف ستتخلى؟

وأنت أيها القائد، كيف تتحمّل المسؤولية وفي نفس الوقت تتخلى؟ وعن ماذا ستتخلى؟

وأنت أيها الأب وأيتها الام، كيف تتحمّل المسؤولية وفي نفس الوقت تتخلى؟

شكرا لكم ( في التخلي التحلّي).


[1] الراوي : أبو أيوب الأنصاري | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه | الصفحة أو الرقم : 3381 | خلاصة حكم المحدث : حسن

اترك تعليقاً

Shopping cart

0
image/svg+xml

No products in the cart.

Continue Shopping